المدونة

الكلمة الأربعون: ?الزواج تجارة?

الكلمة الأربعون:

?الزواج تجارة?

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

فإن نعم الله كثيرة متتابعة بتتابع الليل والنهار، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [سورة النحل، الآية رقم: 18]. ومن هذه النعم العظيمة نعمة الزواج وهو آية من آيات الله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [سورة الروم، الآية رقم: 21]. وهو من سنن المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [سورة الرعد، الآية رقم: 38].

روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبيگ قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬1).

والنساء بالنسبة للزواج على قسمين?

1- امرأة تريد الزواج للدنيا إما للمال أو المنصب أو للسفر والمتعة، ومن كان هذه حالها فيوشك ألا تسعد ولا يسعد بها من تزوجها، فإنما لكل امرئ ما نوى.

2- امرأة تريد الزواج للدِّين والخلق وللذرية الصالحة، ومن كان هذه حالها فيرجى لها السعادة في الدارين وأن تنال ما أمَّلت، فتسعد ويسعد بها من حولها وترزق الذرية التي تقر بها عينها، والأمثلة على ذلك كثيرة».

قال مالك أبو أنسگ لامرأته أم سليم – وهي أم أنس-: إن هذا الرجل- يعني النبيگ – يحرم الخمر، فانطلق حتى أتى الشام فهلك هناك. فجاء أبو طلحة فخطب أم سليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة! ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يصلح لي أن أتزوجك، فقال: ما ذاك دهرك! قالت: وما دهري؟ قال: الصفراء والبيضاء (¬2)! قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، [فإن تُسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره]، قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق أبو طلحة يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه، فلما رآه قال: «جَاءَكُمْ أبُو طَلْحَةَ، غُرَّةُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ»، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك.

قال ثابت وهو البناني أحد رواة القصة عن أنسگ: فما بلغنا أن مهرًا كان أعظم منه أنها رضيت الإسلام مهرًا. فتزوجها وكانت امرأة مليحة العينين، فيها صغر، فكانت معه حتى ولد له بني، وكان يحبه أبو طلحة حبًّا شديدًا. ومرض الصبي [مرضًا شديدًا]، وتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له، [فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيء يقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيأ وذهب، فلم يجئ إلى صلاة العتمة]. فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية: إلى المسجد- ومات الصبي، فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فهيأت الصبي [فسجت عليه]، ووضعته [في جانب البيت]، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخل عليها [ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه] فقال: كيف ابني؟ فقالت: يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة [وأرجو أن يكون قد استراح!] فأتته بعشائه [فقربته إليهم فتعشوا، وخرج القوم]، [قال: فقام إلى فراشه فوضع رأسه]، ثم قامت فتطيبت، [وتصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك]، [ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل إلى أهله]، [فلما كان آخر الليل] قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا قومًا عارية لهم، فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا؛ قالت: فإن الله ک كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر! فغضب ثم قال: تركتني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيت إلي ابني! [فاسترجع، وحمد الله]، [فلما أصبح اغتسل]، ثم غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [فصلى معه] فأخبره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا»، فثقلت من ذلك الحمل، وكانت أم سليم تسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، تخرج إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَلَدَتْ فَأْتُونِي بِالصَّبِيِّ»، [قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر وهي معه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقًا، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، واحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو طلحة: يا رب إنك لتعلم أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى. قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد فانطلقا، قال: وضربها المخاض حين قدموا]، فولدت غلامًا، وقالت لابنها أنس: [يا أنس! لا يطعم شيئًا حتى تغدو به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، [وبعثت معه بتمرات]، قال: فبات يبكي، وبت مجنحًا عليه، أكالئه حتى أصبحت، فغدوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، [وعليه بردة]، وهو يسم إبلًا أو غنمًا [قدمت عليه]، فلما نظر إليه، قال لأنس: «أوَلَدَتْ بِنْت مِلْحَان؟» قال: نعم، [فقال: «رُوَيْدَكَ أَفْرِغْ لَكِ»]، قال: فألقى ما في يده، فتناول الصبي وقال: [«أمَعَهُ شَيْء؟» قالوا: نعم، تمرات]، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- [بعض] التمر [فمضغهن، ثم جمع بزاقه]، [ثم فغر فاه، وأوجره إياه]، فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ: [يمص بعض حلاوة التمر وريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان أول من فتح أمعاء ذلك الصبي على ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرِ»، [قال: قلت: يا رسول الله سمه، قال:] [فمسح وجهه] وسماه عبد الله، [فما كان في الأنصار شاب أفضل منه]، [قال: فخرج منه رجل (¬3) كثير، واستشهد عبد الله بفارس]» (¬4).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) برقم (1467).

(¬2) المقصود: الذهب والفضة.

(¬3) جمع راجل، وهو ضد الفارس.

(¬4) أخرجه الطيالسي (رقم 2056) والسياق له، ومن طريقه البيهقي (4/ 65-66)، وابن حبان (725) وأحمد (3/ 105-106، 181، 196، 287، 290) والزيادات كلها له كما سيأتي.

ورواه البخاري (3/ 132-133)، ومسلم (6/ 174-175) مختصراً مقتصراً على قصة وفاة الصبي، وروى النسائي (2/ 87) قسماً من أوله، والزيادة الأولى له، والسادسة والثامنة والخامسة عشر والسادسة عشر للبخاري، والتاسعة عشر والثانية والعشرون لمسلم، وسائرها لأحمد كما سبق.

وقد عُنيت عناية خاصة بجمع روايات هذه القصة وألفاظها، لما فيها من روعة وجلالة، وليأخذ القارئ عنها فكرة جامعة صادقة، وبذلك تتم العبرة والفائدة. منقول من كتاب أحكام الجنائز للشيخ الألباني -رحمه الله- (ص35-38).