المدونة

الكلمة الرابعة والعشرون:

الإيمان الذي ينجي صاحبه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [سورة يونس، الآية رقم: 9].

وقال -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: «أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» (¬1).

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [سورة الطور، الآية رقم: 21]. في هذه النصوص وغيرها كثير بيان فضل الإيمان وأن صاحبه ينجو به من الخلود في نار جهنم. غير أنه ورد في آيات كريمة أن من الناس من يكون عنده إيمان لكنه لا ينفعه، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [سورة يوسف، الآية رقم: 106].

قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} [سورة غافر، الآيتان رقم: 84-85].

وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 158].

والمراد بالآية التي لا ينفع الإيمان عند إتيانها طلوع الشمس من مغربها، كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعريگ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَار، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬2).

وقال تعالى عن فرعون عندما أدركه الغرق: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [سورة يونس، الآيتان رقم: 90-91]

مما تقدم يعلم أن الإيمان الذي ينفع صاحبه له شروط وقيود يلزم معرفتها وهي:

الأول: أن يكون إيمانًا خالصًا صافيًا لايخالطه شرك ولا يناقضه كفر، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 82]. يلبس أي: يخلط، والظلم هو الشرك، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبس إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬3).

والثاني: أن يكون إيمانًا باطنًا وظاهرًا فلا يخالف باطنه ظاهره، كحال المنافقين الذين قال الله فيهم {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [سورة المنافقون، الآية رقم: 1].

وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [سورة التوبة، الآية رقم: 74].

الثالث: أن يثبت عليه حتى يلقى الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [سورة آل عمران، الآية رقم: 102].

وقد ذكر الله عن أقوام ما تقشعر منه الجلود وترتجف له القلوب، وذلك أنهم ينتقلون بين الكفر والإيمان مرارًا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [سورة النساء، الآية رقم: 137].

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةگ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬4).

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وطَاعَتِك» (¬5).

ومن هذا خاف سلفنا الصالح، وعمرگ على فضله وجلالة قدره يقول لحذيفة: «أسألك بالله! هل عدني رسول الله من المنافقين» (¬6).

وكان سفيان الثوري -رحمه الله- كثير البكاء، فيقول له أصحابه: أمن الذنوب تخاف؟ فيقول: لا، ولكني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل الموت (¬7).

نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى وأن يتوفانا مسلمين.

الرابع: أن يكون الإيمان قبل رؤية العذاب وطلوع الشمس من مغربها وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم، كما مر في الآيات السابقة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرةگ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (¬8).

وروى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» (¬9).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) صحيح البخاري برقم (22) واللفظ له، وصحيح مسلم برقم (193) بنحوه.

(¬2) برقم (2759).

(¬3) صحيح البخاري برقم (4776)، وصحيح مسلم برقم (124).

(¬4) برقم: (118)

(¬5) مسند الإمام أحمد (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم.

(¬6) جامع العلوم والحكم (2/ 492).

(¬7) مختصر منهاج القاصدين (ص391).

(¬8) برقم (2703).

(¬9) برقم (3537) وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (3/ 175) برقم (2802).