المدونة

الكلمة الثانية والعشرون: تأملات في سيرة عبد الله بن أُبي ابن سلول رأس المنافقين

الكلمة الثانية والعشرون

تأملات في سيرة عبد الله بن أُبي ابن سلول رأس المنافقين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

كان عبد الله بن أُبي ابن سلول أحد قادة ورؤساء الخزرج في المدينة، ولما عرض عليه الإسلام أسلم في الظاهر، ولكنه كان رأس المنافقين في المدينة، ويبطن العداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين.

وبداية لقاء هذا الرجل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عند هجرته إلى المدينة فقد روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب على حمار، على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، قبل وقعة بدر. قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أُبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أُبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أُبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا، فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ: كَذَا وَكَذَا». قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، اعف عنه، واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله ک: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [سورة آل عمران، الآية رقم: 186]، وقال الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [سورة البقرة، الآية رقم: 109] إلى آخر الآية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال عبد الله بن أُبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام فأسلموا(١).

ويظهر من هذا الحديث حسد عبد الله بن أُبي ابن سلول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما كان يجهز لأن يكون أميرًا لأهل المدينة ويُوضع التاج على رأسه، فلما جاء الله بهذا الدين شرق بذلك وتظاهر بالإسلام حتى يحقن دمه ويكيد للإسلام وأهله. وكان عبد الله بن أبي ابن سلول يقوم بعد خطبة الجمعة ويدعو أصحابه إلى الإسلام متظاهرًا بنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحرصه على مصلحة المسلمين، واستمر في الباطن في عداوته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللإسلام وأهله حتى كانت حادثة الإفك وطفق يتحدث بها ويتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرضه، وأنزل الله قوله الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [سورة النور، الآية رقم: 11].

ولما حدثت غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) وحصل خلاف بين أحد الأنصار والمهاجرين قال قوله الخبيث: «أوقد فعلوها؟ قد نافرونا(٢)، وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل».

ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فلا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله»(٣).

فسمع بذلك زيد بن أرقم فأخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر بن الخطابگ: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»(٤).

واستمر هذا المنافق يكيد المؤامرات والدسائس للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو ومن معه من المنافقين بالباطن، وأما في الظاهر فكان يخرج إلى الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حصل في غزوة أحد عندما رجع بثلث الجيش في الطريق لكونهم لم يأخذوا برأيه بالبقاء في المدينة وقتال العدو، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالًا لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.

روى عبدالرزاق بن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أُبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما دخل عليه قال: «أَهْلَكَكَ حُبُّ يَهُودَ»، فقال: يا رسول الله إنما أَرسلت إليك لتستغفر لي ولم أُرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه. قال ابن حجر -رحمه الله-: «وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مرض عبد الله بن أُبي جاءه النبي -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل. وكان عبد الله بن أُبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة»(٥).

روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: لما توفي عبد الله بن أُبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بثوبه، فقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم، قال: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ -أَوْ أَخْبَرَنِي- فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [سورة التوبة، الآية رقم: 80] فقال: سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ». قال: فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلينا معه، ثم أنزل الله عليه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [سورة التوبة، الآية رقم: 84](٦).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) صحيح البخاري برقم (4566)، وصحيح مسلم برقم (1798).

(٢) نافره: غلبه، انظر: النهاية (5/ 80).

(٣) صحيح البخاري برقم (4903)، وصحيح مسلم برقم (2772).

(٤) صحيح البخاري برقم (4900)، وصحيح مسلم (4901).

(٥) فتح الباري (8/ 334).

(٦) صحيح البخاري برقم (4672)، وصحيح مسلم برقم (2400).