الكلمة الثامنة عشرة:
تأملات في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ?أمك ثم أمك?
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةگ قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (¬1).
قال ابن بطال: ومقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، فسوى بينهما في الوصاية وخص الأم بالأمور الثلاثة.
«قال القرطبي -رحمه الله-: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول.
قال ابن حجر -رحمه الله-: وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح. ويؤيد تقديم الأم حَدِيثُ عَمْرِو بْن شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» (¬2).
فتوصلت لاختصاصها به باختصاصها في الأمور الثلاثة (¬3).
مسألة: إذا أمره أحد الوالدين بأمر وأمره الثاني بعكسه، فما هو الموقف الصحيح؟
الجواب? أن هذا يختلف باختلاف الحالات:
الحالة الأولى: إن كان الولد (ابن أو بنت) يمكنه إرضاء الطرفين ففي هذه الحالة يرتفع الإشكال.
الحالة الثانية: أن يكون الشيء المأمور به من اختصاص الرجال فيقدم الأب، مثال ذلك: أن ينزل بهم ضيف فيقول الأب: العشاء كذا، وتأمر الأم بخلافه فالمتقدم هو الأب ما لم يكن بخيلًا أو لا يحسن التصرف فلا يعطي الضيافة حقها.
مثال آخر? إذا ركبا مع ابنهما في السيارة فالأحق بالمرتبة الأولى هو الأب.
الحالة الثالثة: أن يكون الأمر المختلف فيه من اختصاص النساء فتقدم الأم، مثل اختيار أثاث مجلس النساء، أو أدوات المطبخ ونحو ذلك.
الحالة الرابعة: «أن يكون في أمر أحدهما مصلحة وأمر الآخر لا مصلحة فيه وإنما مجرد التعنت، ففي هذه الحالة يقدم ما فيه المصلحة.
الحالة الخامسة: أن يكون أحدهما أشد حاجة من الآخر لخدمة ولدهما ولا يمكنه القيام بهما جميعًا فالمقدم من يكون أشد ضررًا وأشد حاجة» (¬4). وقس على ما تقدم ما يقع من الحالات وفقك الله لبرهما ورزقك صالح دعائهما.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم (5971)، وصحيح مسلم (2548).
(¬2) سنن أبي داود برقم (2276)، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 430) يرقم (1991).
(¬3) فتح الباري (10/ 402-403) باختصار.
(¬4) التعليق على صحيح البخاري (13/ 8-9) للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- بتصرف.