المدونة

الكلمة الثالثة: وقفات مع قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ}

الكلمة الثالثة

وقفات مع قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..

قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}(١).

قال ابن كثير -رحمه الله-: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه.

الكلمة الأولى: قول الله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ}، الإشارة في قوله: فلذلك إلى ما تقدم من قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} إلى آخر الآيتين.

قوله تعالى: فادع أمر من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو من أُرسل إليهم من الجن والإنس كافة لعدم التخصيص، وجاء ذلك صريحًا في قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [سورة الأعراف، الآية رقم: 158]، وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [سورة الأحقاف، الآية رقم: 29].

وهذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- التي فضله الله بها على جميع الرسل، ويتضمن ذلك أن ما بعث به -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل الأديان وأشملها أنه صالح لكل زمان ومكان؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، ومِنْهَا: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»(٢).

وفي قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} بيان عظيم يجب على من يريد أن يقوم بالدعوة إلى الله أن يفهمه، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يترك له الاجتهاد في ماذا يدعو؟ وكيف يدعو، فقد بينت الآيات المشار إليها في قوله: فلذلك وهو أن ما أُمر أن يدعو إليه هو ما أُمر به الأنبياء قبله نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. ويتلخص ذلك في أمرين:

الأول: إقامة الدين.

والثاني: الاجتماع على الدين والاعتصام به وترك التفرق. ومن نظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنه -صلى الله عليه وسلم- قام بهذين الأمرين حق القيام وتقديم غيرهما عليهما خلاف ما كان عليه الصلاة والسلام والأنبياء قبله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [سورة يوسف، الآية رقم: 108].

وقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص باتباع ملة إبراهيم -عليه السلام- فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [سورة النحل، الآية رقم: 123] وملة إبراهيم ترتكز على أصلين عظيمين: إخلاص العبادة لله -عز وجل- وإظهار البراءة من الشرك وأهله(٣).

الكلمة الثانية: قول الله تعالى: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستقيم ليكون قدوة لمن يدعوهم، وهذه طريقة الأنبياء?، قال شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [سورة هود، الآية رقم: 88]. ولا تتم الاستقامة إلا بأمرين.

أحدهما: أن يكون سويًّا في نفسه، فالشخص المعاق لا يستطيع المشي على الطريق المستقيم وإن كان مستقيمًا معبدًا.

وثانيهما: أن يكون الطريق الذي يسير عليه مستقيمًا لا اعوجاج فيه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [سورة الكهف، الآية رقم: 1].

ذكرها الله بقوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} [سورة تبارك، الآية رقم: 22]. وفي قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أن الله لم يترك رسوله فضلًا عن غيره أن يختار طريق الاستقامة، بل قال: كما أُمرت. قال تعالى في آية أخرى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [سورة هود، الآية رقم: 112].

وما ضل من ضل ممن يريد أن يسلك طريق الاستقامة إلا للتفريط في هذا الأمر، فهم يقرأون هذه الآية كما أنزل الله: فاستقم كما أمرت؛ وحالهم كما أردت.

الكلمة الثالثة: قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي: أهواء المنحرفين عن الدين من الكفرة والمنافقين، إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة. فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذًا لمن الظالمين، ولم يقل: ولا تتبع دينهم لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه بل اتبعوا أهواءهم واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا.

الكلمة الرابعة: قول الله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي: لتكن مناظراتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم الدال على شرف الإسلام وجلاله وهيمنته على سائر الأديان، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من الإسلام، وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ببعض الكتب أو ببعض الرسل دون غيره فلا يسلم لهم ذلك؛ لأن الكتاب الذي يدعون إليه والرسول الذي ينتسبون إليه من شرطه أن يكون مصدقًا بهذا القرآن وبمن جاء به، فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إلا بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل التي أخبر بها وصدق بها وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته، وأما مجرد التوراة والإنجيل وموسى وعيسى الذين لم يوصفوا لنا ولم يوافقوا لكتابنا فلم يأمرنا بالإيمان بهم.

الكلمة الخامسة: قول الله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم يا أهل الكتاب من العدل بينكم. ومن العدل في الحكم بين أهل الأقوال المختلفة من أهل الكتاب وغيرهم أن يُقبل ما معهم من الحق ويرد ما معهم من الباطل.

وفي هذا أوضح دليل على أن الحكم بالعدل ليس على سبيل الاختيار بل هو مأمور به أمرًا جازمًا، ويلزم على ذلك تحقيق الأسباب التي يتم بها تحقيق العدل كما قال ?: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء، الآية رقم: 58].

الكلمة السادسة: قول الله تعالى: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} هذه الجملة حق لا شك فيه، ولكن قد يقول قائل: ما الفائدة منها؟ أليس هذا كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا؛ لأن هؤلاء يُقرون بأن الله ربهم فما الفائدة؟

الجواب: الفائدة من ذلك هو إلزامهم أن يكونوا مثل ما كنا عليه من الدين؟ لأن الرب واحد (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) بإقراركم، فإذا كان كذلك فالواجب عليكم أن تخضعوا لأوامر ربكم -عز وجل-.

الكلمة السابعة: قول الله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، جاء هذا المعنى صريحًا في قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [سورة يونس، الآية رقم: 41].

الكلمة الثامنة: قول الله تعالى: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي بعدما تبينت الحقائق واتضح الحق من الباطل والهدى من الضلال، لم يبق للجدال والمنازعة محل، لأن المقصود من الجدال إنما هو بيان الحق من الباطل ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف والله يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وإنما المراد ما ذكر.

الكلمة التاسعة: قول الله تعالى: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} في المعاد لفصل القضاء، كقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}.

الكلمة العاشرة: قول الله تعالى: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب(٤).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) سورة الشورى، الآية رقم: (15).

(٢) صحيح البخاري (438)، وصحيح مسلم برقم (521).

(٣) راجع الكلمة الثالثة والأربعون من موسوعة الدرر المنتقاة (1 - 3) للمؤلف.

(٤) انظر: تفسير الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- (ص 1016، 1017)، وتفسير ابن كثير -رحمه الله- (12/ 262 - 263)، وتفسير القرطبي -رحمه الله- (18/ 455 - 456)، وتفسير الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (ص 150 - 158).