المدونة

الكلمة الثالثة والأربعون: غزوة مؤتة - دروس وعبر (٢)

الكلمة الثالثة والأربعون

غزوة مؤتة - دروس وعبر (٢)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..

فاستكمالًا للحديث عن غزوة مؤتة، هذه بعض الفوائد المستفادة من هذه الغزوة العظيمة المباركة:

«أن هذه المعركة أول صدام مسلح بين المسلمين والنصارى من عرب وعجم، وأثرت تلك المعرفة على مستقبل الدولة الرومانية، وكانت مقدمة لفتح بلاد الشام، وهي خطوة عملية قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - للقضاء على دولة الروم المتجبرة، فقد هزت هيبتها في قلوب العرب، وأعطت درسًا في الروح المعنوية العالية لجيوش المسلمين»(١).

المشاورة منهج نبوي أمر الله به، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، وقد عمل الصحابة بذلك عندما وصلوا إلى معان، ووجدوا أنفسهم أمام هذا الجيش العرمرم فتشاوروا، هل يكتبون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرونه بعدد عدوهم، وأشار عبد الله بن رواحة في المواصلة، وقتال العدو، فكان بذلك الفتح.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تعالى: «وهذا عظيم جدًّا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلًا، وقد قُتل من المشركين خلقٌ كثيرٌ، فهذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف، وما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية(٢)، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟

دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان، وهذا مما يدخل في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ يُؤَيِّدُ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)} [آل عمران:١٣]»(٣).

من المعجزات العظيمة التي حصلت في هذه الغزوة، إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بتفاصيل المعركة وهو يخطب بالمدينة والمعركة بالشام، وكانت هذه من أعلام النبوة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: « ... ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر، وأمر أن يُنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي؟ إِنَّهُمُ انْطَلِقُوا، حَتَّى لَقُوا الْعَدُوَّ، فَأُصِيبَ زَيْدٌ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ»، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ النَّاسُ، «ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ(٤) جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَشَدَّ(٥)

عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، أَشْهَدُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى أُصِيبَ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأُمَرَاءِ هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ»، ثُمَّ مَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَانْصُرْهُ»(٦).

وفي رواية أخرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ مِنْ بَعْدِهِ - أَيّ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ - رضي الله عنه - - سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»(٧).

اختلف أهل التاريخ في المراد بقوله: «حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»، هل كان القتال فيه هزيمة للمشركين، أو المراد بالفتح انحياز خالد - رضي الله عنه - بالمسلمين حتى رجعوا إلى المدينة سالمين.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «يمكن الجمع بأن خالدًا لما حاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير هيئة العسكر كما تقدم، وتوهم العدو أنهم قد جاء لهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ فولوا، فلم يتبعهم ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى»(٨).

شجاعة القائد، وثباته في القتال مما يقوي عزيمة جنوده، ويشد من أزرهم لقتال العدو، وهذا ما حدث مع القادة الثلاثة ثم انتقالها إلى خالد بن الوليد، فقد أبلوا جميعًا بلاءً عظيمًا، كان له أعظم الأثر في ثبات المسلمين وقوتهم.

أن الإيمان والعمل الصالح من أعظم أسباب النصر؛ ولذلك وعد الله المؤمنين الصالحين بالنصر في غير آية من كتاب الله، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١)} [غافر:٥١].

أن التوكل على الله من أعظم أسباب النصر، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)} [آل عمران:١٦٠]، وهذا ما حصل في غزوة مؤتة، فإن الصحابة على قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم مقابل عدوهم، إلا أنهم توكلوا على الله وقاتلوا، ففتح الله عليهم.

أن قلة عدد جيش المسلمين أمام عدوهم لا يعني ضعفهم وهزيمتهم، ففي الآية الكريمة: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)} [البقرة:٢٤٩].

أن الصحابة قدموا أنفسهم وأموالهم فداء لهذا الدين، فهذا جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - أحد القادة الثلاثة ضرب بضعًا وتسعين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو صابر محتسب حتى فارق الحياة، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)} [الأحزاب:٢٣].

عظم منزلة هؤلاء القادة الثلاثة عند ربهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا»(٩)، لما رأوا من فضل الشهادة.

أن الله عوض جعفر بن أبي طالب عن يديه المقطوعتين عندما كان يحمل الراية بأن جعله يطير في الجنة مع الملائكة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ»(١٠). وهذه منقبة عظيمة له - رضي الله عنه -، وفي صحيح البخاري أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر يقول: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذَا الْجَنَاحَيْنِ»(١١). قال أبو عبد الله: الجناحان: كل ناحيتين.

وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَرَّ بِي جَعْفَرٌ اللَّيْلَةَ فِي مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مُخَضَّبُ(١٢) الْجَنَاحَيْنِ بِالدَّمِ»(١٣).

«أن في تعيين الرسول - صلى الله عليه وسلم - لثلاثة أمراء على جيش سرية مؤتة لدليل على جواز تعليق الإمارة بشرط، وتولية عدة أمراء بالترتيب.

في نعي الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمراء الثلاثة قبل مجيء خبرهم فيه جواز الإعلام بموت الميت، ولا يكون ذلك من النعي المنهي عنه.

في تأمير المسلمين لخالد بن الوليد بعد استشهاد الأمراء الثلاثة، دليل على جواز الاجتهاد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة.

إن ظهور الحزن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه خبر استشهاد الأمراء الثلاثة، لدليل على ما جعله الله فيه من الرحمة، ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء، ويؤخذ منه أن ظهور الحزن على الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابرًا إذا كان مطمئنًا، بل قد يقال: إن من كان ينزعج بالمصيبة، ويعالج نفسه على الرضا والصبر أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلًا»(١٤).

فضيلة خالد بن الوليد ومن ذكر معه من الصحابة، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَانْصُرْهُ»(١٥).

«لقد تضمنت غزوة مؤتة دروسًا وخبرات عظيمة في لقاء المسلمين الأول مع الروم، أفادوا منها كثيرًا في مستقبل جهادهم معهم، حيث تعرفوا على قوتهم وخططهم وطبيعة أرضهم التي يقاتلون عليها»(١٦).

روى الإمام أحمد في مسنده وأصله في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: «خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ(١٧) مِنْ الْيَمَنِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا، فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقِ(١٨)،

وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذْهَبٌ وَسِلَاحٌ مُذْهَبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيَّ فَعَرقَبَ فَرَسَهُ(١٩)، فَخَرَّ وَعَلاهُ، فَقَتَلَهُ، وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ .. الحديث»(٢٠).

قال ابن كثير - رحمه الله -: «وفي هذه القصة دليل على أن المسلمين غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم»(٢١).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) الصراع مع الصليبيين للشيخ محمد عبد القادر ص ٦٤ بتصرف.

(٢) سبق تخريجه ص ٣٨٣.

(٣) انظر كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية (٦/ ٤٦٠ - ٤٦١).

(٤) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار، قال: الراية.

(٥) الشد: الحمل على العدو. انظر النهاية (٢/ ٤٥١).

(٦) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم ٢٢٥٥١، وقال محققوه: صحيح لغيره.

(٧) صحيح البخاري برقم ٤٢٦٢.

(٨) البداية والنهاية (٦/ ٤٣٠).

(٩) صحيح البخاري برقم ٢٧٩٨.

(١٠) برقم ٣٧٦٣، وقال الشيخ الألباني - رحمه الله - كما في السلسلة الصحيحة برقم ١٢٢٦: حديث صحيح له طرق.

(١١) برقم ٣٧٠٩.

(١٢) مخضب: مبلل، انظر: لسان العرب (٤/ ١١٧).

(١٣) مستدرك الحاكم (٤/ ٢٢٢)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسنه الحافظ في الفتح (٧/ ٧٦).

(١٤) فتح الباري (٧/ ٥١٣).

(١٥) سبق تخريجه ص ٣٨٩.

(١٦) السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم العمري (٢/ ٤٧٠).

(١٧) مددي: منسوب إلى المدد وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد. النهاية (٤/ ٣٠٨).

(١٨) الدرق: الترس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب.

(١٩) أي قطع عرقوبه: وهو الوتر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق من ذوات الأربع، وهو من الإنسان فويق العقب. النهاية (٣/ ٢٢١).

(٢٠) مسند الإمام أحمد برقم ٢٣٩٩٧، وقال محققوه: إسناداه صحيحان.

(٢١) البداية والنهاية لابن كثير - رحمه الله - (٦/ ٤٣٤ - ٤٣٥).