الكلمة الرابعة والعشرون
العدل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد ..
فإن من الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة التي يتحلى بها المؤمن؛ العدل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠]، وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:١٥]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:٥٨].
قال الماوردي: «إن مما تصلح به حال الدنيا قاعدة العدل الشامل، الذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النسل، ويأمن به السلطان.
وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنه ليس يقف على حدٍّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل.
ونُقل عن بعض البلغاء قوله: إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلتين: قلة الطمع، وكثرة الورع، فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه، وجب أن يبدأ بعدل الإنسان في نفسه، ثم بعدله في غيره، فأما عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف في أحواله على أعدل الأمرين: من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
فأما عدله مع غيره؛ فقد تنقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء: باتباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في السيرة، فإن اتباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التسلط أعطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النُّصرة.
القسم الثاني: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانه، والصحابة مع رئيسها، ويكون ذلك بثلاثة أشياء: بإخلاص الطاعة، وبذل النُّصرة، وصدق الولاء؛ فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء تسلط عليه من كان يدفع عنه واضطر إلى اتقاء من كان يقيه ... وفي استمرار هذا حل نظام شامل، وفساد صلاح شامل.
القسم الثالث: عدل الإنسان مع أكفائه، ويكون بثلاثة أشياء: بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى؛ لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا.
وقد يتعلق بهذه الطبقات أمور خاصة يكون العدل فيها بالتوسط في حالتي التقصير والسرف، لأن العدل مأخوذ من الاعتدال، فما جاوز الاعتدال فهو خروج عن العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإن كل ما خرج عن الأولى إلى ما ليس بأولى خروج عن العدل إلى ما ليس بالعدل.
ولست تجد فسادًا إلا وسبب نتيجته الخروج فيه عن حال العدل، إلى ما ليس بعدل من حالتي الزيادة والنقصان، وإذًا لا شيء أنفع من العدل، كما أنه لا شيء أضر مما ليس بعدل»(١).
«قال سعيد بن جبير في جواب لعبدالملك عن العدل: العدل على أربعة أنحاء، العدل في الحكم لقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:٤٢]، والعدل في القول، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:١٥٢]، والعدل في الفدية لقوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:١٢٣]، والعدل في الإشراك، قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)} [الأنعام:١]»(٢).
ومن العدل الذي وردت به النصوص: العدل بين الأولاد في العطية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عامر قال: سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - وهو على المنبر يقول: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟» قَالَ: لا. قَالَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ»، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(٣).
ومنه: عدل الحاكم بين الرعية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِيِ عِبَادَةِ اللَّهِ .. الحديث»(٤).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: « ... وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَاءِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ»(٥).
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»(٦).
قال النووي - رحمه الله -: «قوله: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا: معناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة، أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف، وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله .. ونحو ذلك والله أعلم»(٧).
ومنه العدل بين الزوجات، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٣].
روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»(٨).
وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - البيعة من أصحابه على أن يقولوا بالعدل أينما كانوا، روى النسائي في سننه من حديث عبادة بن الصامت قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا وَمَكَارِهِنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْعَدْلِ أَيْنَ كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ»(٩).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعدل الناس، وقد أوذي بهذا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرف(١٠)، ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»(١١).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «العدل نظام كل شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة»(١٢).
وقال ابن القيم - رحمه الله -: «ومن له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح؛ تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة. فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها»(١٣). أهـ من فوائد العدل:
١ - الأمن لصاحبه في الدنيا والآخرة.
٢ - دوام الملك وعدم زواله.
٣ - طريق موصل إلى الجنة.
٤ - صلاح الشعوب واستقرارها(١٤).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) أدب الدنيا والدين للماوردي (١٤١ - ١٤٤) بتصرف.
(٢) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، ص ٥٠٦.
(٣) صحيح البخاري برقم ٢٥٨٧، وصحيح مسلم برقم ١٦٢٣.
(٤) صحيح البخاري برقم ١٤٢٣، وصحيح مسلم برقم ١٦٢٣.
(٥) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم ٢٩٥٧، وصحيح مسلم برقم ١٨٤١.
(٦) برقم ١٨٢٧.
(٧) شرح صحيح مسلم للنووي (١٢/ ٤١٦).
(٨) برقم ٢١٣٣، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح سنن أبي داود (٢/ ٤٠٠) برقم ١٨٦٧.
(٩) سنن النسائي برقم ٤١٥٣، وصححه الشيخ الألباني - رحمه الله - في صحيح سنن النسائي (٣/ ٨٧١) برقم ٣٨٧٢.
(١٠) كالصرف: قال النووي - رحمه الله -: هو بكسر الصاد المهملة، وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضًا صرفًا. شرح صحيح مسلم (٧/ ١٥٨).
(١١) صحيح البخاري برقم ٣١٥٠، وصحيح مسلم برقم ١٠٦٢ واللفظ له.
(١٢) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص ٢٩.
(١٣) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص ٣٥.
(١٤) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - (٧/ ٢٧٩٢ - ٢٨٠٧) لمجموعة من العلماء.