المدونة

الكلمة الحادية والعشرون: شرح اسم من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم

الكلمة الحادية والعشرون

شرح اسم من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)} [الأعراف].

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «للَّه تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدًا لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ»(١). وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»(٢).

ومن أسماء الله الحسنى: الرحمن، والرحيم، قال بعضهم: ذُكِرَ الرحمن في القرآن سبعًا وخمسين مرة، وذُكِرَ الرحيم مئة وأربع عشرة مرة، والرحمن دال على أن الرحمة صفته القائمة به كعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: ١١٠].

والرحيم دال على أنه يرحم خلقه، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)} [الأحزاب]، وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: ٢١].

«ورحمة الله عامة وخاصة، فأما العامة فهي لجميع الخلق، فكل الخلق مرحومون برحمة الله، ولولا رحمة الله ما أكلوا وما شربوا، وما اكتسوا، وما سكنوا، ولكن الله رحمهم، فهيأ لهم ما تقوم به أبدانهم من المعيشة الدنيوية، وأما رحمته الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين»(٣)، «حيث وفقهم للإيمان وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بِشَرِّ ما عندنا»(٤).

«وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم تقتضي التوفيق للإيمان والعلم والعمل وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية والفلاح والنجاح وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق»(٥).

ورحمة الله واسعة وسعت كل شيء، قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: ١٤٧]، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦].

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلَاةِ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا»(٦). يريد رحمة الله، يعني: ضيقت واسعًا على فضل الله سبحانه وجوده، وقلت ما ليس لك قوله، وسألت ما لا يحسن سؤاله، فإن السيول الدوافع قد تكف، والبحور الزواخر قد تقبض، ولكن فضل الله وجوده على خلقه لا يكف ولا يقبض ولا يقلع أبدًا(٧).

ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين:

أولًا: أن رحمة الله تغلب غضبه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»(٨).

قال ابن القيم -رحمه الله-: «وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو والصفح عنهم، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر، ولولا ذلك لخرب العالم، وسقطت السموات على الأرض، وخرت الجبال»(٩).

ثانيًا: أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلَّب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ » فَقُلْنَا: لا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: «اللَّه أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»(١٠).

ثالثًا: أن الله جلَّ وعلا عنده مئة رحمة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً». وفي رواية: «فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»(١١).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»(١٢).

رابعًا: أنه ينبغي للمؤمن أن يكون رحيمًا بالناس، فالرحمة من الأخلاق العظيمة التي حض الله سبحانه عباده على التخلق بها، فقد مدح بها أشرف رسله، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة].

وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الرحمة إنما تنال عباد الله الرحماء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»(١٣). وقال أيضًا: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»(١٤).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَبَّلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»(١٥). وفي رواية: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»(١٦).

خامسًا: أن طاعة الله تعالى ورسوله سبب لرحمة الله، فكلما كان الإنسان أقرب إلى الله تعالى كانت رحمة الله أولى به، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)} [آل عمران]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)} [الأعراف].

سادسًا: أن الله تعالى من رحمته بعباده يبتليهم بالمصائب والآلام تطهيرًا لهم وتكفيرًا لذنوبهم، ورفعة لدرجاتهم، روى الترمذي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(١٧).

وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَلا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَه حَتَّى يُبلِغَهُ ذَلِكَ»(١٨). فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل:

قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبَلْوى وإنْ عَظُمَتْ ... وَيْبتَلِيَ اللهُ بعَضَ القَوْم بِالنِّعمِ

سابعًا: أن المؤمنين إنما يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته لا بأعمالهم، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا»(١٩).

ثامنًا: أنه يُشرع للمؤمن أن يسأل ربه الرحمة، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: «قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي -وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلَّا الْإِبْهَامَ- فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ»(٢٠).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١). صحيح البخاري برقم ٦٤١٠، وصحيح مسلم برقم ٢٦٧٧.

(٢). صحيح البخاري برقم ٧٣٩٢.

(٣). أحكام من القرآن للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (١/ ٢٥).

(٤). تيسير الكريم الرحمن ص ٢٤٦ للشيخ ابن سعدي -رحمه الله-.

(٥). مجموع مؤلفات الشيخ السعدي (٣/ ٢٥٥).

(٦). صحيح البخاري برقم ٦٠١٠.

(٧). الإفصاح عن معاني الصحاح (٧/ ٢٩٣).

(٨). صحيح البخاري برقم ٣١٩٤، وصحيح مسلم برقم ٢٧٥١.

(٩). شفاء العليل (٢/ ٦٩٩).

(١٠). صحيح البخاري برقم ٥٩٩٩، وصحيح مسلم برقم ٢٧٥٤.

(١١). صحيح البخاري برقم ٦٠٠٠، وصحيح مسلم برقم ٢٧٥٢.

(١٢). صحيح البخاري برقم ٦٤٦٩، وصحيح مسلم برقم ٢٧٥٥ واللفظ له.

(١٣). صحيح البخاري برقم ١٢٨٤، وصحيح مسلم برقم ٩٢٣.

(١٤). سنن أبي داود برقم ٤٩٤٢، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع برقم ٧٤٦٧.

(١٥). صحيح البخاري برقم ٥٩٩٧، وصحيح مسلم برقم ٢٣١٨.

(١٦). صحيح البخاري برقم ٥٩٩٨، وصحيح مسلم برقم ٢٣١٧.

(١٧). برقم ٢٣٩٦، وقال الألباني -رحمه الله- في صحيح الترمذي (٢/ ٢٨٥) برقم ١٩٥٣: حديث حسن صحيح.

(١٨). صحيح ابن حبان برقم ٢٨٩٧، والحاكم (١/ ٦٦٤) برقم ١٣١٤، وحسنه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم ١٥٩٩.

(١٩). صحيح البخاري برقم ٥٦٧٣، وصحيح مسلم برقم ٢٨١٦.

(٢٠). برقم ٢٦٩٧.