الكلمة الخامسة عشرة
التحذير من الفتن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥)} [الأنفال]. «هذه الآية وإن كان المخاطب بها هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحذر من الفتن»(١).
روى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قَالوا: نَعُوذُ بالله مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ(٢).
وهذه الفتن تُعرض على القلوب فتؤثر فيها، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا(٣)، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ(٤) فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ»(٥).
والفتن كثيرة لا تدع بيتًا إلا دخلته، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»(٦). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ»(٧).
وفي آخر الزمان تكثر الفتن، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ»(٨).
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا(٩)، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»(١٠).
والفتن خطرها كبير، من دنا منها أخذته، ومن حام حول حماها أوقعته، والبعد عنها عصمة منها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِه»(١١).
قال ابن حجر -رحمه الله-: «في هذا الحديث التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها»(١٢).
والفتن درجات، منها الصغير والكبير، ومنها من يخرج المرء من دينه، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ: «مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ مِنْهَا صِغَارٌ، وَمِنْهَا كِبَارٌ»(١٣).
ومن الفتن العظيمة فتنة الشرك، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: ٢١٧]، ومعنى الآية: أن ما يقوم به المشركون من صد عن سبيل الله مستقبح كذلك، ومنع المؤمنين عن المسجد الحرام وإخراج أهل المسجد الحرام منه أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، والشرك الذي هم فيه أعظم من القتل.
ومنها كثرة القتل في آخر الزمان، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ»(١٤).
ومن كثرة القتل سفك الدم من غير سبب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ»(١٥).
ومنها فتنة المال، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»(١٦).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»(١٧).
وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ»(١٨).
ومن فتنة المال جمعه سواء من حلال أو حرام، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ»(١٩).
ومنها فتنة النساء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»(٢٠).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»(٢١).
والأولاد زينة الحياة الدنيا جعلهم الله فتنة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: ١٥]. ومن الفتنة بهم التفريط في تربيتهم أو الانشغال بهم عن واجبات الدين.
ومنها فتنة الدنيا بشهواتها وملذاتها، روى البخاري في صحيحه من حديث سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا»(٢٢).
ومنها فتنة الدجال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»(٢٣).
والسعيد من جنب الفتن، روى أبو داود في سننه من حديث المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنِ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا»(٢٤).
والمخرج من هذه الفتن الاستعاذة بالله منها والبعد عنها واجتنابها، والاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسؤاله سبحانه الثبات على الدين، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابُ الله وَسُنَّتِي»(٢٥).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(٢٦). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»(٢٧)(٢٨).
فائدة مهمة:
سُئل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: كيف يَعرف الرجل منا هل أصابته الفتنة أم لا؟ فأجاب: «إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر، فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته»(٢٩).
وقال الحسن: «إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»(٣٠).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١). انظر المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص ٥٣٣.
(٢). برقم ٢٨٦٧.
(٣). ومعنى تعرض: أي كأنها تلصق بعرض القلوب، أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه بشدة لصقها به، قال: وقوله عودًا عودًا: أي تعاد وتكرر عليه شيئًا بعد شيء.
(٤). أي حلت فيه محل الشراب.
(٥). برقم ١٤٤.
(٦). برقم ١٨٨.
(٧). صحيح البخاري برقم ١٨٧٨، وصحيح مسلم برقم ٢٨٨٥.
(٨). صحيح البخاري برقم ١٠٣٦.
(٩). قوله يرقق: هذا الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة، يرقق بضم الياء وفتح الراء وبقافين أن يصير بعضها رقيقًا أي خفيفًا لعظم ما بعده، فالثاني يجعل الأول رقيقًا، وقيل: معناه يشبه بعضها بعضًا، وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء، وقيل معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها. صحيح مسلم بشرح النووي (١٢/ ٤٣٦).
(١٠). برقم ١٨٤٤.
(١١). صحيح البخاري برقم ٣٦٠١، وصحيح مسلم برقم ٢٨٨٦.
(١٢). فتح الباري (١٣/ ٣١).
(١٣). برقم ٢٨٩١.
(١٤). صحيح البخاري برقم ٧١٢١، وصحيح مسلم برقم ١٥٧.
(١٥). صحيح مسلم برقم ٢٩٠٨.
(١٦). (٢٩/ ٢١٥) برقم ١٧٤٧١، وقال محققوه: حديث صحيح.
(١٧). برقم ١١٨.
(١٨). صحيح البخاري برقم ٦٣٦٨، وصحيح مسلم برقم ٥٨٧.
(١٩). برقم ٢٠٨٣.
(٢٠). صحيح البخاري برقم ٥٠٩٦، وصحيح مسلم برقم ٢٧٤٠.
(٢١). صحيح مسلم برقم ٢٧٤٢.
(٢٢). برقم ٢٨٢٢.
(٢٣). صحيح البخاري برقم ١٣٧٧، وصحيح مسلم برقم ٥٨٨ واللفظ له.
(٢٤). رقم ٤٢٦٣ وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (٣/ ٨٠٣) برقم ٣٥٨٥.
(٢٥). مستدرك الحاكم (١/ ٢٨٤) وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير برقم ٢٩٣٧.
(٢٦). مسند الإمام أحمد (١٩/ ١٦٠)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم.
(٢٧). برقم ٢٦٥٤.
(٢٨). خطب الشيخ د. عبدالمحسن القاسم (٣/ ٢١٠ - ٢١٧).
(٢٩). مستدرك الحاكم (٤/ ٥١٤) برقم ٨٤٤٣ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٣٠). التاريخ الكبير للبخاري (٤/ ٣٢١).