الكلمة الثانية والستون: فضل الأعمال الصالحة في رمضان
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد،
فإن من فضل اللَّه ورحمته بعباده: أن يسر لهم مواسم خير يستكثرون فيها من الطاعات والقربات، تضاعف فيها الأجور، وتكفر فيها السيئات، وتقال فيها العثرات ويعتق اللَّه فيها من شاء من عباده من النيران، ومن هذه المواسم شهر رمضان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (١٨٣)} [البقرة]. وقال تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون (١٨٤)} [البقرة]. وينبغي للمؤمن أن يستقبل أيامه ولياليه بالأعمال الصالحة فما هي إلا ليال معدودة ثم تنقضي، قال تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: ١٨٤].
ومن هذه الأعمال الصالحة قراءة القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥].
قال بعض أهل العلم: إن اللَّه عقب بالفاء السببية التي تفيد التعليل ليبين أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال القرآن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر (١)} [القدر]. ومن المعلوم أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجود بالخير من الريح المرسلة(١).
وكان الإمام مالك إذا أقبل رمضان توقف عن التأليف والدروس وقال: إنما هو إطعام طعام، وقراءة قرآن. كان بعض السلف يختم القرآن في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، فعلى أقل تقدير أن يختم الصائم القرآن ولو مرة واحدة في رمضان.
ومنها: الصدقة وهي باب عظيم من أبواب الخير، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (٢٧٤)} [البقرة].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: انتهيت إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَأَىنِي قَالَ: «هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»، قال: فجئت فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الأَكْثَرُونَ أَموَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»(٢).
قال ابن القيم رحمه الله: وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمر بالصدقة ويحث عليها ويدعو إليها بحاله وقوله، ولذلك كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر(٣). روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ»(٤).
وللصدقة في رمضان فضيلة ومزية على غيره ويدخل في ذلك إطعام الطعام، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (٩)} [الإنسان]. روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»(٥).
ومنها إفطار الصائم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ»(٦).
ومنها قيام الليل، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (١٦) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون (١٧)} [السجدة].
روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلْإِثْمِ»(٧).
وروى الطبراني في المعجم الأوسط من حديث سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَم أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»(٨).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن قَامَ رَمَضَان إِيمَاناً وَاحتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ»(٩). وقيام رمضان شامل للصلاة من أول الليل وآخره وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها واحتساب الأجر والثواب من اللَّه عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها، وعلى المسلم أن يحرص على القيام مع الإمام حتى ينصرف»(١٠).
روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»(١١).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) ص: ٢٢ برقم ٦.
(٢) ص: ١٢٦٨ برقم ٦٦٣٨، وصحيح مسلم ص: ٣٨٤ برقم ٩٩٠ واللفظ له.
(٣) زاد المعاد (٢/ ٢٢ - ٢٣) بتصرف.
(٤) ص: ١٢٣٧ برقم ٦٤٤٤، وصحيح مسلم ص: ٣٨٤ برقم ٩٩١.
(٥) صحيح ابن حبان ص: ١٣٩ برقم (٥٠٩).
(٦) (٢٨/ ٢٦١) برقم ١٧٠٣٣. وقال محققوه: صحيح لغيره.
(٧) ص: ٥٥٨ برقم (٣٥٤٩)، قال أبو عيسى الترمذي: وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (٣/ ١٧٨) برقم (٣٨٠١).
(٨) (٤/ ٣٠٦) برقم: ٤٢٧٨، وقال المندري في كتابه الترغيب والترهيب (١/ ٤٨٥): إسناده حسن.
(٩) ص: ٣٨٠ برقم ٢٠٠٩، وصحيح مسلم ص: ٢٩٩ برقم ٧٥٩.
(١٠) مجالس شهر رمضان ص: ١٨.
(١١) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه ص: ١٥١ برقم ٨٠٦، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.