المدونة

الكلمة المئة واثنتان وأربعون: وفاته عليه الصلاة والسلام

الكلمة المئة واثنتان وأربعون: وفاته عليه الصلاة والسلام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فبكى أبو بكر الصديق، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا(١).

ففي هذا الحديث إشارة إلى قرب وفاته عليه الصلاة والسلام، وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة، وإلى عزوفه عليه الصلاة والسلام عن الدنيا، واشتياقه إلى الرفيق الأعلى.

وقال بعض أهل العلم: إن الله جمع لنبيه بين النبوة والشهادة، ويستدلون على ذلك بما أخرجه البخاري في صحيحه قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»(٢).

قال شراح الحديث: الأبهر عرق بالظهر متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه، وهو يشير بذلك إلى ما حصل له في غزوة خيبر عندما جاءته امرأة يهودية، يقال لها: زينب بنت الحارث بشاة مسمومة، وقدمتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع لقمة في فمه، فلم يستسغها، فرمى بها، ومكث عليه الصلاة والسلام من السنة السابعة إلى السنة الحادية عشرة وهو يعاني من آثار السم الذي يعاوده فترة بعد أخرى(٣).

قال ابن عبد البر: «ثم لما دنت وفاته عليه السلام، أخذه وجعه في بيت ميمونة، فخرج إلى أحد، فصلى عليهم صلاة الميت، ودعا لهم، وكان ذلك بعد ثماني سنوات من استشهادهم»(٤). اهـ، وكان أول ما يشكو في علته الآلام الشديدة في رأسه، فدخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت: وارأساه يا نبي الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ»، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك، لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أَنَا وَارَاسَاهْ»(٥).

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه، يقول: «أَينَ أَنَا غَدًا؟ أَينَ أَنَا غَدًا؟ » يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء(٦).

تقول عائشة رضي الله عنها، وهي تحكي مشهد احتضاره عليه السلام: «كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «اللهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ»(٧). تَقُولُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -(٨)، وتقول أيضًا: «مَا رَأَيتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيهِ الوَجَعُ مِن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -»(٩)، وقال بعض أهل العلم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شدد عليه في سكرات الموت، رفعة لدرجاته، وإلا فهو المغفور له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ثم بدأت الحمى الشديدة تنتشر في جسده عليه الصلاة والسلام، فيقول: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِن سَبعِ قِرَبٍ لَم تُحلَلْ أَوكِيَتُهُنَّ»، فيوضع في مخضب ثم يصب عليه الماء من تلك القرب، حتى أشار إليهم: أَنْ حَسبُكُمْ»(١٠).

وكانت فاطمة بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأته وهو يعاني من هذه السكرات العظيمة، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ»(١١).

ولما هم بالصلاة مع الناس أغمي عليه ثلاث مرات(١٢)، ثم أفاق، ولكنه لا يزال يحمل هم الدعوة إلى الله، فيقول وهو في آخر رمق من حياته: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَت أَيمانُكُم(١٣)، لَعنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ(١٤)، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»(١٥).

تقول عائشة رضي الله عنها: لما نزل به - أي الموت - ورأسه على فخذي غُشي عليه ثم أفاق، ثم شخص بصره إلى سقف البيت، وقد أخبرنا قبل ذلك: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»، فيخير بين الدنيا وبين ما عند الله، فعرفت أنه لا يختارنا، وأنه الحديث الذي كان يحدثنا وَهْوَ صَحِيحٌ، ثم رفع بصره إلى السماء، وجعل يقول: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى»، فكانت آخر كلمة تكلم بها حتى قبض(١٦)، ومالت يده الشريفة.

قالت فاطمة رضي الله عنها: يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ(١٧).

قال الحافظ ابن كثير: وكانت وفاته عليه الصلاة والسلام سنة إحدى عشرة من الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول، الموافق يوم الاثنين، ومكث بقية الاثنين ويوم الثلاثاء بكماله، ودفن ليلة الأربعاء، وهو المشهور عند الجمهور(١٨).

ومن الدروس والعبر المستفادة من وفاته عليه الصلاة والسلام:

١ - أن الموت سبيل كل حي، فلا أحد كائنًا من كان سيخلد في هذه الدنيا، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠].

وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: ١٨٥].

٢ - زهده عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة الدنيا، ورغبته في الآخرة، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن الحارث، قال: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، إِلَاّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً(١٩).

بل إنه عليه الصلاة والسلام: تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ(٢٠).

٣ - أن موته عليه الصلاة والسلام من أعظم المصائب، ولن يبتلى المسلمون بمصيبة أعظم من وفاته، روى الدارمي في سننه من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»(٢١) ليكون ذلك تسلية له في مصيبته.

وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَيْدِيَ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا»(٢٢).

وقالت فاطمة رضي الله عنها لأنس بعدما دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ؟ ! »(٢٣).

قال الشاعر:

اصبر لكل مُصيبةٍ وتَجَلدِ ... واعلمْ بأن المَرءَ غَيرَ مُخَلَّد

وإذا أتَتكَ مصيبةٌ تَشْجَى بها ... فاذْكر مُصَابَكَ بالنبي محمدِ(٢٤)

اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واجعلنا من أتباعه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) البخاري برقم (٤٦٦)، ومسلم برقم (٢٣٨٢).

(٢) برقم (٤٤٢٨).

(٣) صحيح البخاري برقم (٥٧٧٧).

(٤) انظر: الدرر في اختصار المغازي والسير (١/ ٢٦٩).

(٥) صحيح البخاري برقم (٧٢١٧).

(٦) البخاري برقم (٤٤٥٠)، ومسلم برقم (٢٤٤٣).

(٧) صحيح البخاري برقم (٤٤٤٩).

(٨) صحيح البخاري برقم (٤٤٤٦).

(٩) صحيح البخاري برقم (٥٦٤٦).

(١٠) صحيح البخاري برقم (٤٤٤٢).

(١١) صحيح البخاري برقم (٤٤٦٢).

(١٢) صحيح مسلم برقم (٤١٨).

(١٣) سبق تخريجه.

(١٤) صحيح البخاري برقم (٤٣٥)، وصحيح مسلم برقم (٥٣١).

(١٥) صحيح مسلم برقم (٥٣٢).

(١٦) صحيح البخاري برقم (٤٤٦٣)، وبرقم (٤٤٣٥) و (٤٤٤٠)، وصحيح مسلم برقم (٢٤٤٤).

(١٧) صحيح البخاري برقم (٤٤٦٢).

(١٨) البداية والنهاية (٨/ ١٥٢).

(١٩) برقم (٤٤٦١).

(٢٠) صحيح البخاري برقم (٤٤٦٧)، وصحيح مسلم برقم (١٦٠٣).

(٢١) (١/ ٥٣) برقم (٨٥) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٣٤٧).

(٢٢) برقم (٣٦١٨)، وقال ابن كثير: إسناده على شرط الشيخين، وقال الترمذي: حديث غريب صحيح.

(٢٣) صحيح البخاري برقم (٤٤٦٢).

(٢٤) انظر: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، وأثر ذلك على الأمة، للشيخ خالد أبو صالح.